بادين: الفتى الأفريقي الذي تحول من هدية دبلوماسية إلى جزء من الحياة الملكية السويدية

© Nationalmuseum (båda)
© Nationalmuseum (båda)

في منتصف القرن الثامن عشر، شهد البلاط الملكي السويدي حادثة نادرة تجسد جزءًا من تاريخ التداخل الثقافي الأوروبي-الأفريقي. واحدة من أبرز الشخصيات التي تنبثق من هذا التاريخ هي “بادين”، الفتى الأفريقي الذي أُحضر إلى السويد كهدية دبلوماسية ليصبح جزءًا من الحياة الملكية. قصة بادين تحمل في طياتها الكثير من التعقيد والتناقضات، فهي قصة تحكي عن العبودية، الحرية، الولاء الملكي، والبحث عن الذات.

البداية: من جزر الهند الغربية إلى السويد

وُلد بادين، الذي كان يُدعى في طفولته “Couschi”، على الأرجح في حوالي عام 1750 في جزيرة سانت كروا، وهي جزء من المستعمرات الدنماركية في جزر الهند الغربية. كان والديه من العبيد الذين يعملون في خدمة الحاكم الدنماركي. في عام 1758، تم فصل بادين عن عائلته وإرساله إلى أوروبا كجزء من تقليد كان سائداً في ذلك الوقت، حيث كان يتم تقديم الأطفال الأفارقة كهدايا دبلوماسية بين العائلات المالكة الأوروبية. كان الهدف من تقديم هذه الهدايا إظهار الثراء والقوة من خلال الحصول على “خدم” أو “عبيد” من أصول بعيدة.

وفي عام 1760، أُرسل بادين إلى السويد كهدية إلى الملكة لوفيزا أولريكا، زوجة الملك أدولف فريدريك ووالدة الملك المستقبلي غوستاف الثالث. كان وصوله إلى البلاط الملكي السويدي جزءًا من تلك الممارسات الدبلوماسية التي استخدمت الأفراد الأفارقة كرموز للغرابة والتميز، حيث تم اعتبارهم بمثابة زخرفات بشرية للقصور الأوروبية.

الحياة في البلاط الملكي: الطفولة الفريدة

نشأ بادين جنبًا إلى جنب مع أبناء الملكة لوفيزا أولريكا، بمن فيهم الملك المستقبلي غوستاف الثالث. كان بادين يتلقى معاملة خاصة تعكس الفلسفات التربوية المتأثرة بأفكار التنوير. الملكة، المتأثرة بفلسفة جان جاك روسو، كانت تعتقد أن بادين يجب أن ينمو بحرية دون قيود. ولهذا السبب، لم يُفرض عليه أي توجيه صارم، وكان يُسمح له بالتصرف بحرية، بما في ذلك تسلق الطاولات والمزاح في القصر، في سلوك كان يُعتبر غير معتاد تمامًا مقارنة ببقية أفراد البلاط. هذا السلوك الفريد من نوعه أكسبه لقب “بادين”، وهو يعني “المهرج” بالفرنسية.

ومع ذلك، كانت حياة بادين معقدة، فقد كان يعيش في دورين متناقضين. من جهة، كان فردًا قريبًا من العائلة المالكة ويحظى بالحرية في التصرف، ومن جهة أخرى كان يُنظر إليه باعتباره “خادمًا” أو “هدية”، مما يجعله دائمًا في مرتبة اجتماعية أدنى. لكن هذه التنشئة الفريدة من نوعها منحته القدرة على التعامل مع الجميع في البلاط بأسلوبٍ مرن وحكيم.

بادين في خضم الأحداث الملكية

مع مرور السنوات، أصبح بادين ليس فقط جزءًا من الحياة اليومية في البلاط، ولكنه أيضًا دخل في دائرة الثقة الملكية، حيث تم تكليفه بمهام حساسة. إحدى أبرز هذه المهام كانت في عام 1782، عندما كانت الملكة الأرملة لوفيزا أولريكا على فراش الموت. في تلك الفترة، كانت الأسرة المالكة السويدية تعاني من انقسامات داخلية وصراعات حول إرث العرش، وكان بادين في قلب هذه الأحداث. بعد وفاة الملكة، طُلب من بادين نقل وثائق حساسة للغاية من قصر فريدريكشوف إلى البلاط، وهي وثائق كانت تحتوي على مراسلات سرية تتعلق بالملك غوستاف الثالث.

عند وصوله إلى البلاط، قام بادين بتنفيذ المهمة بصدق وأمانة، لكنه رفض الكشف عن محتويات الوثائق أو مصيرها عندما سأل الملك غوستاف الثالث عنها لاحقًا. هذه الحادثة أظهرت ولاء بادين الكبير للملكة وأفراد البلاط، وهو الولاء الذي أكسبه احترام الملك، رغم التوترات التي حدثت بينهما في ذلك الوقت. ومع ذلك، قدم الملك لبادين عرضًا للعمل كخادم له بعد وفاة الملكة، لكن بادين رفض العرض واختار أن يعيش حياته بحرية كفرد مستقل.

الحياة بعد البلاط: البحث عن الحرية

بعد رفضه للعرض الملكي، قرر بادين أن يشق طريقه بعيدًا عن البلاط. بحلول ذلك الوقت، كان بادين قد حصل على أراضٍ من الملك وقرر أن يعيش حياته كفرد حر. تزوج بادين من إليزابيث شوارز، ابنة أحد التجار الأثرياء، وبنى لنفسه حياة جديدة في العاصمة السويدية ستوكهولم. ورغم عدم حصولهما على أطفال، إلا أن علاقتهما كانت مستقرة، واستمر بادين في العيش حياة اجتماعية نشطة.

أثر بادين في المجتمع السويدي

قصة بادين تعكس تناقضات تلك الفترة. فقد كان مثالًا على القدرة على التغلب على القيود الاجتماعية والعبودية، وفي الوقت نفسه يعكس مدى تداخل الطبقات الاجتماعية والتمييز العنصري الذي كان سائداً في أوروبا آنذاك. بادين لم يكن مجرد خادم، بل أصبح رجلًا معروفًا في المجتمع السويدي، واشتهر بولائه للعائلة المالكة، وقدرته على إدارة شؤونه الشخصية بحكمة واستقلال.

بعد وفاة زوجته الأولى، تزوج بادين مرة أخرى في عام 1799، وكان يواصل عيش حياته بحرية حتى وفاته في عام 1822 عن عمر يناهز 70 عامًا. عاش بادين سنواته الأخيرة في حي سودرمالم في ستوكهولم، وكان يحظى باحترام المجتمع المحلي، حتى أن بعض أفراد العائلة المالكة واصلوا دعمه ماليًا بعد مغادرته البلاط.

إرث بادين

ترك بادين وراءه إرثًا معقدًا. فهو يمثل قوة الإرادة في مواجهة الصعوبات الاجتماعية والسياسية في زمن كان التمييز العرقي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية. ومع ذلك، فإن قصته تحمل في طياتها أيضًا تفاصيل عن الولاء والقدرة على تجاوز القيود الاجتماعية. حتى اليوم، تبقى قصة بادين رمزًا للصمود في وجه الظروف الاجتماعية الصعبة، وتجسيدًا للقدرة على التحكم في مصير الفرد حتى في أصعب الظروف.

كانت حياته شاهدًا على حقبة مليئة بالتحولات الاجتماعية والسياسية، وكان له دور خاص في البلاط الملكي، لكنه اختار في النهاية أن يعيش حياته كإنسان حر، تاركًا وراءه إرثًا لا يُنسى.

المصدر: popularhistoria

المزيد من المواضيع