دال ميديا: يحتفل الكرد في مختلف أنحاء العالم في الحادي والعشرين من آذار/مارس من كل عام بعيد نوروز، الذي يمثل رأس السنة الكردية، ويعدّ من أهم المناسبات القومية التي تجمع الكرد بمختلف مشاربهم في احتفال يجمع بين البعد التاريخي، والهوية الثقافية، والنضال السياسي. وعلى الرغم من أن نوروز يُحتفل به في العديد من الدول والمجتمعات الآسيوية، إلا أنه يحمل معانٍ خاصة بالنسبة للكرد، كرمزٍ للصمود والحرية، وكتعبير عن تجدد الأمل في نيل الحقوق القومية والسياسية.
نوروز في الذاكرة الكردية: من الأسطورة إلى التاريخ
يرتبط نوروز لدى الكرد بأسطورة قديمة تروي حكاية البطل الشعبي كاوا الحداد، الذي قاد ثورة ضد الملك الطاغية ضحاك، الذي كان يحكم البلاد بقبضة من الحديد، ويضطهد الناس بشكل وحشي. وتذكر الروايات أن الملك ضحاك كان يضحي يوميًا بشباب من الشعب لإطعام الأفاعي التي نمت على كتفيه، حتى انتفض الحداد كاوا، وقاد ثورة أطاحت به، وأوقد نارًا كبيرة فوق الجبال، ليعلن بذلك نهاية الظلم وبداية عهد جديد من الحرية.
هذه القصة أصبحت جزءًا من الوعي الجمعي الكردي، وتحولت النار التي أشعلها كاوا إلى رمزٍ خالدٍ للمقاومة والصمود. ومنذ ذلك الحين، يحتفل الكرد بعيد نوروز بإشعال النيران على قمم الجبال وفي الساحات العامة، تعبيرًا عن استمرار شعلة الحرية التي لا تنطفئ.
طقوس نوروز: احتفال بالهوية والثقافة الكردية
يتسم عيد نوروز بمجموعة من التقاليد التي تعكس الطابع الثقافي والقومي للكرد. ففي هذا اليوم، يرتدي الرجال والنساء ملابسهم التقليدية المزخرفة بألوان زاهية، وتقام احتفالات واسعة في المدن والقرى، حيث تتخللها حلقات الرقص الجماعي (الگوفند)، وعروض الموسيقى والأغاني القومية، والمسابقات التقليدية، فضلًا عن إشعال النيران فوق التلال والجبال.
يُعتبر الزي الكردي التقليدي الذي يرتديه المحتفلون جزءًا من هوية العيد، حيث يرتدي الرجال سترات وأحزمة طويلة، بينما ترتدي النساء فساتين ملونة طويلة مع أغطية رأس مزيّنة بالتطريز والمجوهرات. وتعكس هذه الأزياء تراثًا ثقافيًا يمتد لآلاف السنين.
كما تتزين الساحات والبيوت بالأعلام الكردية، وتُرفع الشعارات التي تحتفي بالحرية والقيم القومية، بينما يجتمع الأهل والأصدقاء حول مائدة عامرة بالمأكولات التقليدية مثل الدولمة، والبيركس، والخفتة، والحلويات المصنوعة منزليًا.
نوروز في الدول الأخرى: عيد فارسي الأصل أم كردي الهوية؟
يحتفل بنوروز في العديد من الدول والمجتمعات، مثل إيران، أفغانستان، طاجيكستان، أذربيجان، أوزبكستان، وتركمانستان، حيث يعتبر بداية السنة الجديدة وفقًا للتقويم الفارسي. إلا أن الاحتفال به في هذه المجتمعات يقتصر على كونه عيدًا موسميًا، مرتبطًا بقدوم الربيع وانبعاث الطبيعة من جديد.
أما بالنسبة للكرد، فإن نوروز يتجاوز كونه عيدًا للطبيعة، ليحمل بُعدًا سياسيًا وقوميًا، حيث أصبح مناسبة للتعبير عن تطلعاتهم نحو الحقوق والاعتراف بهويتهم الوطنية. لذلك، فإن مظاهر الاحتفال في كردستان العراق تختلف عن إيران، حيث أن الكرد في العراق يحتفلون به علنًا كعيد رسمي، بينما في إيران، وعلى الرغم من أن نوروز معترف به رسميًا، فإن الاحتفالات ذات الطابع القومي الكردي غالبًا ما تواجه بقيود أمنية مشددة.
نوروز المحظور: قمع الاحتفالات في تركيا وسوريا والعراق سابقًا
على الرغم من كون نوروز عيدًا تاريخيًا وثقافيًا، إلا أنه ظل محظورًا في عدة دول لسنوات طويلة، حيث كان يُعتبر تعبيرًا عن الهوية القومية الكردية، وهو ما أدى إلى تضييقات أمنية على المحتفلين في بعض البلدان.
في تركيا
حتى تسعينيات القرن الماضي، كان الاحتفال بعيد نوروز في تركيا يُعتبر نشاطًا محظورًا، وكانت السلطات التركية تتعامل معه على أنه مناسبة “انفصالية”، وتمنع التجمعات العامة المرتبطة به. كما حاولت الحكومة التركية تحريف اسم العيد إلى “Nevruz” بلفظ مختلف، في محاولة لتجريده من رمزيته القومية الكردية.
ورغم تخفيف القيود منذ أوائل الألفية الجديدة، إلا أن الاحتفالات في تركيا لا تزال تحت رقابة أمنية مشددة، وغالبًا ما تتحول التجمعات إلى مظاهرات سياسية تطالب بحقوق الكرد في البلاد.
في سوريا
في سوريا، كان نوروز محظورًا لعقود، حيث كانت السلطات تمنع أي مظاهر احتفال علنية به، وكانت قوات الأمن تتدخل لمنع التجمعات، مما أدى إلى وقوع اشتباكات واعتقالات في عدة مناسبات. إلا أن الأوضاع تغيرت بعد عام 2011، حيث أصبح من الممكن الاحتفال بنوروز في بعض المناطق الكردية، وإن كان لا يزال يحمل طابعًا سياسيًا قويًا.
في العراق
خلال حكم النظام البعثي في العراق، كان نوروز يُعامل على أنه تهديد سياسي، وكان يُحظر الاحتفال به في المدن الكردية، حيث كان النظام يعتبره مناسبة تحريضية ضد الحكومة المركزية. إلا أن سقوط النظام عام 2003 سمح للكرد في إقليم كردستان العراق بإحياء العيد بشكل رسمي، وأصبح عطلة وطنية معترفًا بها في الإقليم.
نوروز… بين الماضي والحاضر ومستقبل الهوية الكردية
اليوم، لم يعد نوروز مجرد مناسبة ثقافية، بل أصبح رمزًا للنضال القومي والتعبير عن الهوية الكردية. إذ تحول إلى مناسبة يرفع فيها الكرد مطالبهم بحقوقهم القومية، ويرددون فيها الشعارات الداعية إلى الحرية، والاعتراف بلغتهم وتراثهم، والعيش بكرامة في أوطانهم.
وعلى الرغم من القمع والتضييق الذي واجهه الكرد عبر العقود، إلا أن نوروز بقي شعلةً لا تنطفئ، ورمزًا للأمل والصمود، حيث يؤكد الكرد في كل عام أنهم، مهما كانت الظروف، سيواصلون الاحتفال بهذا العيد، وسيحافظون على إرثهم القومي العريق.
نوروز ليس مجرد عيد، إنه هوية، قضية، وانتصار للحرية.
المصدر: دال ميديا – وكالات